فصل: الشاهد إلخ امس بعد التسعمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الثاني بعد التسعمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الوافر

لقد كذبتك نفسك فاكذبنه *** فإن جزعاً وإن إجمال صبر

على أن سيبويه، قال‏:‏ الأصل فإما جزعاً، وأما إجمال صبر، فحذف ما منهما، وبقي إن‏.‏

قال سيبويه في موضعين من كتابه‏:‏ الأول‏:‏ في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل، وتقدم نقله فيما قبل هذا، وهو قوله بعد إنشاد البيت‏:‏ هذا على إما وليس على إن الجزاء، كقولك‏:‏ إن حقاً، وإن كذباً‏.‏ فهذا على إما محمول‏.‏

ألا ترى أنك تدخل الفاء ولو كانت على أن الجزاء وقد استقبلت الكلام لاحتجت إلى الجواب‏.‏ فإن قلت‏:‏ فإن جزع، وأن إجمال صبر كان جائزاً، كأنه قلت‏:‏ فإما أمري جزع، وإما إجمال صبر‏.‏ إلى آخر ما نقلناه هناك‏.‏

والثاني في‏:‏ باب الحكاية لا يغير فيها الأسماء عن حالها في الكلام، وقال فيه‏:‏ والدليل على أن ما مضمومة إلى إن، قول الشاعر‏:‏

لقد كذبتك نفسك‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

فإنما يريد إما، وهي بمنزلة ما مع أن في قولك‏:‏ أما أنت منطلقاً انطلقت‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو علي في كتاب الشعر، تقديره‏:‏ فإما جزعت جزعاً، وأما أجملت صبراً، يدل على ذلك أنه لا يخلو من أن تكون إن الجزاء وغيرها، فلو كانت للجزاء وألحقت الفاء في قولك‏:‏ فإما جزعت جزعاً، للزمك أن تذكر الجواب‏.‏

ألا ترى أنك لو قلت‏:‏ أنت ظالم إن فعلت، لسد ما تقدم مسد الجواب، ولو ألحقت الفاء، فقلت أنت ظالم فإن فعلت، لزمك أن تذكر للشرط جواباً، ولا يجزىء ما تقدم عما يقتضيه الشرط من الجزاء‏.‏

فكما أن إن في قوله‏:‏ فإن جزعاً، في معنى إما، كذلك في‏:‏ المتقارب

وإن من خريفٍ فلن يعدما

انتهى‏.‏

وقال أيضاً في البغدايات‏:‏ لا يصلح أن تكون إن في قوله‏:‏ فإن جزعاً للجزاء، لدخول الفاء عليها، وأنها لو كات للجزاء للزمها الجواب، فلما لم تصلح أن تكون للجزاء حملت على أنها المحذوفة من إما‏.‏

فهذا وجه استدلال سيبويه بدخول الفاء‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن مذهب سيبويه في إما هو أنها إن التي للجزاء ضمت إليها ما‏.‏ وهذا عندي غلط عليه، وقد قال ما لا يجوز معه ظن هذا به‏.‏

ألا تراه، قال‏:‏ ولو قلت إن جزع، وإن إجمال صبر كان جائزاً، كأنك قلت‏:‏ فإما أمري جزع، وإما إجمال صبر‏.‏ لأنك لو صححتها فقلت إما، جاز ذلك فيها‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ إما يجري ما بعدها على الابتداء، ففيما قاله في هذين الموضعن إجازة وقوع المبتدأ بعد إما‏.‏ ومن مذهبه الذي لا يدفهع أن لا يقع الابتداء بعدها، فكيف يكون عنده أن إما إنما هي إن الجزاء‏؟‏ وذلك لا يسوغ‏.‏

ألا ترى أنك تقول‏:‏ ضربت إما زيداً، وإما عمراً، وتقول‏:‏ ذهب إما زيد، وإما عمرو، فول كانت إن الجزاء لما عمل ما قبلها فيما بعدها، ولكان ذهب فعلاً فارغاً لا فاعل له‏.‏

فإن قال‏:‏ يكون انتصاب الاسم بعده بفعل مضمر، كأنه قيل‏:‏ ضربت إن ضربت زيداً‏.‏ فليس هذا الغرض الموضوع لهذا المعنى، ولا المفهوم من هذا اللفظ‏.‏

ألا ترى أن المراد إنما هو ضربت أحدهما‏.‏ على أن ذلك فاسد، لأن ذهب يبقى بلا فاعل، ولا يجوز أن يضمر‏.‏ ويدل أيضاً على فساده قولك‏:‏ إما أن تقوم وإما أن لا تقوم، وقوله‏:‏ يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً ‏.‏

ألا ترى أن هذا لو كان إن فيه للجزاء، لم يجز وقوع المبتدأ بعده‏:‏ وللزم أن يجازى بما يجازى به إن، ولم يتقدم ما يغني عن الجواب‏.‏ فهذا التوهم على سيبويه فاسد‏.‏

فإن قال‏:‏‏:‏ ما أنكرت أن يكون ما ذهبت إليه، من أن إن في إما للشرط، مذهب سيبويه، لأنه قد ذكر أن إن على أربعة أوجه‏:‏ المخففة وليس هذا من مواضعها، والنافية، ولا نفي هنا، وزائدة بعد ما النافية، فلما لم يجز أن تكون واحدةً من الثلاث وجب أن تكون الشرطية، لأنك في إما لا تبت على الشيء كما لا تبت في الجزاء، فلما شابهتها في هذا الموضع ولم تكن واحدة من الثلاث لزم أن تكون إياها‏.‏

فالجواب‏:‏ ليس في قوله إن أن تكون على أربعة أوجه ما يوجب أن تكون إن هذه إن الجزاء، لما قدمنا من الدليل في امتناع ذلك أن تكون إياها؛ وإنما لم يذكر إن هذه فيجعله قسماً خامساً، لأنه لا يستعمل في الكلام إلا في الشعر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما جهة الفائدة في إعلامه أن إن من إما‏؟‏ قلت‏:‏ يعلم منه أن الحرف المدغم نون وليس بميم، لأن الشاعر لما اضطر فحذف ما وأظهر النون، علم به أن ذلك أصله، وأنها مركبة، وإن أراد أن إما أصلها إن ثم ضم إليها ما، كما ضمت إلى لو في لوما‏.‏ فذلك لا يمتنع، ولا دلالة على أنها الجزاء‏.‏ انتهى‏.‏

وقد أطال من غير أن يعين نوعها، وما المانع من كونها في الأصل للشرط، ثم لما ركبت مع ما انسلخت عن الشرط، وصارت مع ما لمعنى آخر‏.‏

وإليه أشار الشارح المحقق بقوله‏:‏ ولا منع من تغير كعنى الكلمة وحالها بالتركيب إلخ ‏.‏

وقول الشارح‏:‏ وقال غيره - أي غير سيبويه -‏:‏ هو مفرد غير مركب وأول البيتين بإن الشرطية، وشرطها كان المحذوفة، أي‏:‏ فإن كان جزعاً، أقول‏:‏ البيت الأول‏:‏

وإن من خريفٍ فلن يعدما

قال الأصمعي وتبعه المبرد‏:‏ إن إن فيه شرطية، والشرط محذوف، أي‏:‏ وإن سقته من خريف، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وجملة فلن يعدما‏:‏ هو الجزاء‏.‏ كما تقدم‏.‏ فالمحذوف فعل مدلول عليه، لا كان‏.‏

وأما البيت الثاني، فقد قال بعضهم‏:‏ يحتمل أن تكون إن في شرطية حذف جوابها لفهم المعنى، والتقدير‏:‏ فإن كنت ذا جزع فلا تجزع، وإن كنت مجمل صبرٍ فأجمل الصبر‏.‏ حكاه المرادي في الجنى الداني، وشرح التسهيل‏.‏ فكان المناسب لتقدير الشارح أولاً‏:‏ إما تجزع جزعاً، أن يقدره هنا بالخطاب‏.‏ كما حكاه المرادي‏.‏

ونقله عن سيبويه أن التقدير عنده‏:‏ إما تجزع جزعاً، خلاف الواقع، كما يعلم من نقلنا كلامه في الموضعين‏.‏ وإنما قدر سيبويه إن بإما، فأراد الشارح أن يدرج في نقل هذا أن جزعاً منصوب بفعل مقدر، فقدر تجزع بالخطاب، بناء منه على أن المصراع الأول خطاب لمذكر، بدليل‏:‏ فاكذبنها بنون التوكيد إلخ فيفة‏.‏

وهذا تحريف من النساخ، وإنما الرواية فاكذبيها بالياء، والكافان مكسورتان، لأنه خطاب مع امرأته‏.‏ والمصراع الثاني فيه التفات من خطابها إلى التكلم، ولهذا قدره سيبويه في وجه الرفع بالتكلم‏.‏

قال‏:‏ وإن قلت‏:‏ فإن جزع، وإن إجمال صبر كان جائزاً كأنك قلت‏:‏ فإما أمري جزع، وإما إجمال صبر، كما تقدم‏.‏

فكان الواجب ان يقدر على مذهب سيبويه‏:‏ فإما أجزع جزعاً، وأما أجمل الصبر إجمالاً‏.‏ وأن يقدر على مذهب غيره‏:‏ فإن أجزع جزعاً فأنا معذور، وإن أجمل الصبر إجمالاً فأنا ممدوح‏.‏

والرفع في هذا رواية رواها صاحب الأغاني، والأسود بن محمد الأعرابي‏.‏

وينبغي أن نورد الآبيات التي روياها ليتضح ما ذكرناه، قالا‏:‏ قال دريد بن الصمة يرثي معاوية أخ إلخ نساء‏.‏وقتلته بنو مرة‏:‏ الوافر

ألا بكرت تلوم بغير قدرٍ *** فقد أحفيتني ودخلت ستري

فإن لم تتركي عذلي سفاه *** تلمك علي نفسك أي أعصر

أسرك أن يكون الدهر سدى *** علي بشره يغدو ويسري

وإلا ترزئي نفساً ومال *** يضرك هلكه في طول عمري

فقد كذبتك نفسك فاكذبيه *** فإن جزعٌ وإن إجمال صبر

فإن الرزء يوم وقفت أدعو *** فلم يسمع معاوية بن عمرو

رأيت مكانه فعطفت زور *** وأي مكان زورٍ يا ابن بكر

على إرمٍ وأحجارٍ وصيرٍ *** وأغصانٍ من السلمات سمر

وبنيان القبور أتى عليه *** طوال الدهر من سنةٍ وشهر

ولو أسمعته لأتاك ركض *** سريع السعي ولأتاك يجري

بشكة حازمٍ لا عيب فيه *** إذا لبس الكماة جلود نمر

فإما تمس في جدثٍ مقيم *** بمسهكةٍ من الأرواح قفر

فعز علي هلكك يا ابن عمروٍ *** ومالي عنك من عزمٍ وصبر

قوله‏:‏ ألا بكرت إلخ ، فاعله ضمير امرأته‏.‏ وبكر‏:‏ أسرع أي وقت كان‏.‏ والقدر، بسكون الدال‏:‏ المبلغ والمقدار‏.‏

وقوله‏:‏ فقد أحفيتني إلخ ، التفات من الغيبة إلى خطابها‏.‏ والإحفاء، بالحاء المهملة‏:‏ الاستقصاء في الكلام والمنازعة‏.‏

وروي بدله‏:‏ فقد أحفظتني، يقال‏:‏ أحفظه بمعنى أغضبه‏.‏ وقوله‏:‏ ودخلت ستري، أي هجمت علي في خلوتي، وبالغت في اللوم‏.‏

وسفاهاً‏:‏ مصدر سافهه، والمراد سفهاً، وهو نقص في العقل‏.‏ وقوله‏:‏ تلمك علي جواب إن‏.‏ ونفسك‏:‏ فاعله، أي تلمك نفسك بسبي عصراً طويلاً أي عصرٍ، وهو الدهر‏.‏

وروي بدله‏:‏ غير عصر‏.‏ يعني‏:‏ دعيني أبك عليه ليخف ما بي الوجد، وإن تمنعيني أمت وجداً عليه، فتلمك نفسك، بسبب ما حل بي‏.‏

وقوله‏:‏ أسرك، استفهام إنكاري، وسدى بمعنى أسدي، من السدى بالفتح، وهو ما يمد في النسج‏.‏

وقوله‏:‏ وإلا ترزئي إلخ ، أي‏:‏ وإن لم تتركي عذلي ترزئي‏.‏ والرزء‏:‏ المصيبة والنقص، وفعله من باب منع، يتعدى إلى مفعلوين‏:‏ أحدهما‏:‏ هنا نائب الفاعل، يقال‏:‏ ما رزأته ماله، أي‏:‏ ما نقصته‏.‏ وجملة يضرك هلكه‏:‏ صفة لمال‏.‏

وقوله‏:‏ وقد كذبتك نفسك‏.‏‏.‏ إلخ ، في النهاية لابن الأثير عن الزمخشري‏:‏ وقول العرب‏:‏ كذبته نفسه، أي‏:‏ منته الأماني، وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون، وذلك مما يرغب الرجل في الأمور، ويبعثه على التعرض لها‏.‏

ويقولون في عكسه‏:‏ صدقته نفسه، إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب‏.‏ ومن ثم قالوا للنفس‏:‏ الكذوب‏.‏ انتهى‏.‏

وكذب، بفتح الذال، وفي فاكذبيها بكسرها‏.‏

فظهر بهذه الأبيات أن إلخ طاب لمؤنث‏.‏ ولم ينتبه له من شراح أبيات سيبويه غير ابن السيرافي، وأنشد البيتين قبله كذا‏:‏

أسرك أن يكون الدهر وجه *** عليك بسيبه يغدو ويسري

وإلا تزرئي أهلاً ومال *** يضرك هلكه ويطول عمري

فقد كذبتك نفسك فاكذبيه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ البيت

وقال‏:‏ يخاطب امرأته‏.‏

ولما لم يقف الأعلم على الأبيات، وسببها، ظن أنه خطاب لمذكر، فقال - وتبعه ابن خلف - قاله دريد معزياً لنفسه عن أخيه عبد الله بن الصمة، وكان قد قتل‏:‏ لقد كذبتك نفسك، فيما منتك به من الاستمتاع بحياة أخيك فاكذبنها في كل ما تمنيك به بعد، فإما أن تجزع لفقد أخيك، وذلك لا يجدي عليك شيئاً، وإما أن تجمل الصبر فلذلك أجدى عليك‏.‏ هذا كلامه‏.‏ والرواية إنما هي فقد إلى آخر ما ذكرنا‏.‏

وأنشد العيني البيت بالتذكير، وروى أوله‏:‏ وقد كذبتك، وقال‏:‏ الواو للعطف إن تقدمه شيء، وعلى هذا النمط شرح البيت‏.‏

وإنما قلنا إن المصارع الثاني التفات إل التكلم، لقول سيبويه في رفعه‏:‏ أمري جزع‏.‏ وإلا فالظاهر أنه من بقية إلخ طاب، وأن تقديره فإما تجزعين جوزعاً وذلك لا فائدة فيه، وإما تجملين الصبر إجمالاً، وهو أجدى‏.‏

وقوله‏:‏ فلم يسمع معاوية فعل وفاعل، وروي‏:‏ فلم أسمع من الإسماع، ومعاوية مفعوله‏.‏

وقوله‏:‏ رأيت مكانه فعطفت زوراً، أي‏:‏ لأجل الزيارة، وقوله‏:‏ وأي مكان زور استفهام أراد به النفي‏.‏ ويا ابن بكر خطاب لنفسه‏.‏ وبكر جده كما يأتي‏.‏

وقوله‏:‏ على إرم متعلق بزور الثاني‏.‏ وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء، وهي حجارة تنصب علماً في المفاوز‏.‏ شبه أحجار قبره بها‏.‏

وصير‏:‏ جمع صيرة بكسر الصاد المهملة، وهي حظيرة الغنم، شبه ما حول قبره بها‏.‏

وروي بدله‏:‏ وأحجار ثقال‏.‏ والسلمات‏:‏ جمع سلمة، وهي شجر من أشجار البادية، تقطع أغصانها، وتوضع على القبر، ووصفها بالسمر ليبسها‏.‏

وقوله‏:‏ وبنيان القبور مبتدأ، وجملة أتى إلخ ، خبره‏.‏ وطوال بالفتح بمعنى طول فاعل أتى‏.‏

وقوله‏:‏ بشكة حازم متعلق بأتاك‏.‏ والشكة، بالكسر‏:‏ السلاح‏.‏ والحازم‏:‏ المتيقظ‏.‏

وقوله‏:‏ لا عيب فيه روي بدله‏:‏ لا غمز فيه، أي‏:‏ لا مطعن فيه‏.‏ والكمأة‏:‏ الشجعان، جمع كمي بوزن فعيل‏.‏ قال صاحب الأغاني‏:‏ أي‏:‏ كأن ألوانهم ألوان النمر‏:‏ سواد وبياض، من السلاح‏.‏

والجدث‏:‏ بفتح الجيم والدال‏:‏ القبر‏.‏ والمسهكة، بفتح الميم والهاء وسكون السين المهملة بينهما‏:‏ ممر الريح‏.‏

وإنما رثاه بهذه القصيدة مع أنه لم يكن من قومه، لما رواه صاحب الأغاني، قال‏:‏ تحالف دريد بن الصمة ومعاوية بن عمرو وتواثقاً‏:‏ إن هلك أحدهما أن يرثيه الباقي بعده‏:‏ وإن قتل أن يطلب بثأره، فقتل معاوية بن عمروٍ، وقتله هاشم بن حرملة المري، فرثاه دريد بهذه القصيدة‏.‏

ودريد‏:‏ مصغر أدرد، يقال‏:‏ رجل أدرد، وامرأة درداء، وهو الذي كبر حتى سقطت أسنانه فصار يعض على دردره‏.‏ ومنه أبو الدرداء‏.‏ والصمة، بكسر الصاد وتشديد الميم، معناه الشجاع‏.‏

قال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين‏:‏ عاش دريد بن الصمة الجشمي نحواً من مائتي سنة، حتى سقط حاجباه على عينيه، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وقتل يوم حنين كافراً‏.‏

وقال صاحب الأغاني‏:‏ دريد بن الصمة، اسمه معاوية بن الحارث بن بكر ابن علقمة ابن خزاعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان، ودريد بن الصمة فارس شجاع شاعر فحل‏.‏

وجعله محمد بن سلام أول شعراء الفرسان، وقد كان أطول الفرسان الشعراء غزواً، وأبعدهم أثراً وأكثرهم ظفراً، وأيمنهم نقيبة عند العرب، وأشعرهم‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ كان دريد سيد بني جشم، وفارسهم، وقائدهم، وكان مضفراً ميمون النقيبة، غزا نحو مائة غزاة، وما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وخرج مع قومه في يوم حنين مظاهراً للمشركين، ولا فضل فيه للحرب، وإنما أخرجوه تيمناً به، وليقتبسوا من رأيه، فقتل على شركه‏.‏

وكان لدريد إخوة وهم‏:‏ عبد الله الذي قتلته غطفان، وعبد يغوث وقتله بنو مرة، وقيس وقتله بنو أبي بكر بن كلاب، وخالد وقتله بنو الحارث بن كعب‏.‏

وأمهم جميعاً‏:‏ ريحانة بنت معد يكرب الزبيدي، أخت عمرو بن معد يكرب، كان الصمة سباها ثم تزوجها، فأولدها بنيه، وإياها عنى عمرو أخوها لقوله في شعره‏:‏ الوافر

أمن ريحانة الداعي السميع *** يؤرقني وأصحابي هجوع

إذا لم تستطع شيئاً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع

ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لعشر ليالٍ بقين من رمضان، سمعت به هوزان، فجمعها مالك بن عمرو النصري، فاجتمعت إليه ثقيف مع هوزان، ولم يجتمع إليه من قيس إلا هوزان، وناس قليل من بني هلال، وغابت عنها كعب وكلاب، فجمعت نصر، وجشم، وسعد، وبنو بكر، وثقيف، واحتشدت، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخٌ كبير فانٍ، ليس فيخ شيء إلا التيمن برأيه، ومعرفته بالحرب‏.‏

وكان شجاعاً مجرباً، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف، فلما أجمع مالك المسير حط مع الناس أموالهم، وأبناءهم، ونساءهم، فلما نزلوا بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة، في شجارٍ له يقاد به، فقال لهم دريد‏:‏ بأي وادٍ أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ بأوطاس‏.‏ قال‏:‏ نعم مجال إلخ يل، ليس بالحزن الضرس ولا السهل الدهس ما لي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، وثغاء الشاء‏؟‏ قالوا‏:‏ ساق مالك بن عوف مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم‏.‏

فقال‏:‏ أين مالك‏؟‏ فدعى له به، فقال له‏:‏ يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم كائن، له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير، ونهيق الحمير، وبكاء الصبيان، وثغاء الشاء‏؟‏ قال‏:‏ سقت مع الناس نساءهم وأبناءهم وأموالهم‏:‏ قال‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله، ليقاتل عنهم‏.‏

فوبخه ولامه، ثم قال‏:‏ راعي ضأن والله - أي‏:‏ أحمق - وهل يرد المنهزم شيء‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك‏.‏ ثم قال‏:‏ ما فعلت كعب وكلاب‏؟‏ قال‏:‏ لم يشهد منهم أحد‏.‏ قال‏:‏ غاب الجد والحد، لو كان يوم علاء ورفعة لم يغيبوا عنك، ولوددت أنكم فعلتم مثل ما فعلوا، فمن شهد منهم‏؟‏ قال‏:‏ بنو عمرو بن عامر، وبنو عوف بن عامر‏.‏ قال‏:‏ ذانك الجذعان من عامر، لا يضران ولا ينفعان‏.‏ ثم قال‏:‏ يا مالك إنك لم تصنع شيئاً بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور إلخ يل شيئاً، ارفعها إلى أعلى بلادها، وعلياء، قومها، ثم الق بالرجال على متون إلخ يل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كنت أحرزت مالك، وأهلك، ولم تفضح في حريمك‏.‏

فقال‏:‏ لا والله ما أفعل ذلك أبداً‏!‏ إنك قد خرفت، وخرف رأيك، وعلمك والله لتطيعنني يا معاشر هوازن، ولأتكئن على السيف حتى يخرج من ظهري‏.‏ وحسد دريداً أن يكون له في ذلك اليوم ذكر ورأي‏.‏ فقالو له‏:‏ أطعناك، وخالفنا دريداً‏.‏

فقال دريد‏:‏ هذا يوم لم أشهده، ولم أغب عنه ثم قال‏:‏ منهوك الرجز‏.‏

يا ليتني فيها جذع *** أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع *** كأنها شاةٌ صدع

فلما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف النصري، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نخلة، فأدرك ربيعة ابن رفيع السلمي دريد بن الصمة، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة، وذلك أنه كان في شجارٍ له، فأناخ به فإذا هو برجل شيخ كبير، ولم يعرفه الغلام، فقال له دريد‏:‏ ماذا تريد‏؟‏ قال‏:‏ أقتلك‏.‏ قال‏:‏ ومن أنت‏؟‏ قال‏:‏ ربيعة بن رفيع السلمي‏.‏ فأنشاً دريد يقول‏:‏

ويح ابن شكمة ماذا يريد *** من المرعش الذاهب الأدرد

فأقسم لو أن بي قوة *** لظلت فرائصه ترعد

ويا لهف نفسي أن لا تكو *** ن معي قوة الشامخ الأمرد

ثم ضربه السلمي بسيفه فلم يغن شيئاً، فقال‏:‏ بئسما سلحتك أمك‏!‏ خذ سيفي هذا من مؤخرة رحلي في القراب فاضرب به، وارفع عن العظام، واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب بوم قد منعت فيه نساءك‏!‏ فلما ضربه سقط، فانكشف فإذا عجانه وبطن فخذيه مثل الفراطيس، من ركوب إلخ يل أعراء‏.‏ فلما رجع ربيعة أخبر أمه بقتله إباه، فقالت‏:‏ قد أعتق قتيلك ثلاثاً من أمهاتك‏!‏ وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث بعد التسعمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

لعمري ما أدري وإن كنت داري *** بسبع رمين الجمر أم بثمان

على أن الهمزة قد تحذف في الشعر قبل أم المتصلة، فإن التقدير‏:‏ أبسبع رمين الجمر أم بثمان‏.‏ ولم يرد المنقطعة، لأن المعنى على‏:‏ ما أدري أيهما كان‏.‏

قال سيبويه في باب المنقطعة‏:‏ زعم إلخ ليل أن قول إلخ طل‏:‏ الكامل

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ البيت

كقولك‏:‏ إنها لإبل أم شاء‏.‏ ويجوز في الشعر أن تريد بكذبتك الاستفهام، وتحذف الألف‏.‏

قال الأسود بن يعفر‏:‏ الطويل

لعمرك ما أدري وإن كنت داري *** شعيث ابن سهم أم شعيث ابن منقر

وقال أبو الحسن، لعمر بن أبي ربيعة‏:‏

لعمرك ما أدري وإن كنت داري *** بسبع رمين الجمر أم بثمان

انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد في إلخ رين حذف ألف الاستفهام ضرورة، لدلالة أم عليها‏.‏ ولا يكون هذا إلا على تقدير الألف، لأن قوله‏:‏ ما أدري يقتضي وقوع الألف، وأم مساوية لها‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا جعله ابن عصفور ضرورة، وعمم سواء كانت مع أم، أم لا‏.‏ قال‏:‏ ومنه حذف همزة الاستفهام إذا أمن اللبس للضرورة، كقول الكميت‏:‏ الطويل

طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب

يريد‏:‏ وذو الشيب يلعب‏.‏

ثم أنشد البيتين، وقال‏:‏ وقد حذفت مع أم في الشاذ في قراءة ابن محيصن‏:‏ سواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم بهمزة واحدة من غير مد، وكأن الذي سهل حذفها كراهية اجتماع همزتين مع قوة الدلالة عليها‏.‏

ألا ترى أن سواء تدل عليها بما فيها من معنى التسوية، إذ التسوية لاتكون إلا بين اثنين، ويدل عليها مجيء أم بعد ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وذهب جماعة إلى أن الهمزة يجوز حذفها إن كانت مع أم، وإلا فلا‏.‏

وذهب إلخ فش وتبعه طائفة إلى جواز حذفها مطلقاً‏.‏ وهو ظاهر كلام ابن مالك في التوضيح، قال‏:‏ قد كثر حذف الهمزة إذا كان معنى ما حذفت منه لا يستقيم إلا بتقديرها، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك نعمة‏}‏‏.‏

قال أبو الفتح وغيره‏:‏ أراد‏:‏ وتلك نعمة‏.‏ ذلك قراءة ابن محيصن‏:‏ سواء عليهم أنذرتهم بهمزة واحدة‏.‏ ومن ذلك قراءة أبي جعفر‏:‏ سواءٌ عليهم استغفرت لهم بهمزة وصل‏.‏

ومن حذفها في الكلام الفصيح قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا ذر عيرته بأمه أراد‏:‏ أعيرته‏؟‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتاني جبريل فبشرني من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة‏.‏ قلت‏:‏ وإن سرق، وزنى‏؟‏ قال‏:‏ وإن سرق، وزنى‏.‏

أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وإن سرق، وزنى‏.‏ ومنه حديث ابن عباس أن رجلاً، قال‏:‏ إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه وفي بعض النسخ‏:‏ فأقضيه‏؟‏‏.‏

ومنه أن الحسن والحسين أخذ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجها من فيه، وقال‏:‏ أما علمت‏؟‏ وفي بعض النسخ‏:‏ ما علمت‏؟‏‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة المخزومي قالها في عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمي الصحابي‏.‏

وقبله‏:‏

لقد عرضت لي بالمحصب من منى *** مع الحج شمسٌ سيرت بيمان

فلما التقينا بالثنية سلمت *** ونازعني البغل اللعين عناني

بدا لي منها معصمٌ حيث جمرت *** وكفٌ خضيبٌ زينت ببنان

فوالله ما أدري وإن كنت داري ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

فقلت لها عوجي فقد كان منزلي *** خصيبٌ لكم ناء عن الحدثان

فعجنا فعاجت ساعةً فتكلمت *** فظلت لها العينان تبتدران

عرضت‏:‏ ظهرت‏.‏ والمحصب، بالحاء وتشديد الصاد المفتوحة المهملتين‏:‏ موضع رمي الجمار بمنىً‏.‏ والحج‏:‏ قصد مكة للنسك، على حذف مضاف، أي‏:‏ ذووه‏.‏

وشمس‏:‏ أي‏:‏ امرأة كالشمس سيرت في طرف يمان، بخلاف الشمس الحقيقية فإنها تسير نحو المغرب‏.‏

وحرفه ابن الملا فكتبه‏:‏ شبهت بيمان ، وقال‏:‏ هو صفة محذوف، أي‏:‏ بسيفٍ يمان، شبهها به في البريق واللمعان‏.‏ هذا كلامه‏.‏

والثنية عند جمرة العقبة‏.‏ ولا يبعد أن يكون سيرت بثمان، أي‏:‏ مع نسوة ثمان، وبه يظهر وجه قوله‏:‏ بسبع رمين الجمر بالنون، إلا أنه يكون في ثمان الآتي إيطاء‏.‏

وقوله‏:‏ ونازعني، أي‏:‏ جاذبني‏.‏ والنزع‏:‏ الجذب‏.‏ وبدا‏:‏ ظهر‏.‏ والمعصم، بكسر الميم‏:‏ موضع السوار من الساعد‏.‏

وجمرت، بالجيم وتشديد الميم‏:‏ رمت جمتار المنسك، وهي ثلاث جمرات‏:‏ الجمرة الأولى، والوسطى، وجمرة العقبة‏.‏

وخضيب‏:‏ مخضوبة بالحناء وبغيرها‏.‏ والبنان‏:‏ أطراف الأصابع، وقيل‏:‏ الأصابع‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما معنى تزين الكف بالبنان، وهي من تمام إلخ لقة، والزينة إنما تكون بما زاد عليها‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن تلك الكف زينت بلطافة البنان وحسنها، وبمغايرة خضابها في اللون خضاب الكف‏.‏

على أنا نقول‏:‏ لو أريد أن الزينة حصلت بذات البنان لاستقام، ويكون إشارة إلى ما خص الله به النوع الإنساني من الأعضاء المتناسبة، بالنسبة إلى سائر الحيوان‏.‏ كذا في شرح المغني لابن الملا‏.‏

وروى ابن المستوفي المصراع هكذ‏:‏

وكف لها مخضوبة ببنان

فلا يرد السؤال والجواب‏.‏

وقوله‏:‏ لعمري ما أدري روي كذا بالياء والكاف‏.‏ وروي أيضاً‏:‏ فوالله ما أدري‏.‏ والدراية‏:‏ علم يتخيل‏.‏ وجملة ما أدري‏:‏ جواب القسم‏.‏

وأدري‏:‏ يتعدى لمفعولين، وهو هنا معلق بالاستفهام المقدر في بسبع، وجملة وإن كنت دارياً‏:‏ اعتراض بين أدري، وبين معموله، وإن وصلية‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف ينفي الدراية عنه ثم يثبتها له‏؟‏ قلت‏:‏ اختلاف زمانهما نفى التناقض‏.‏

وقال السيوطي في شرح أبيات المغني‏:‏ قوله‏:‏ وإن كنت يحتمل أن تكون إن نافية، أي‏:‏ وما كنت دارياً، فيكون تأكيداً للجملة قبلها‏.‏ ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، أي‏:‏ وإني كنت قبل ذلك من أهل الدراية، والمعرفة، حتى بدا لي ما ذكر، فسلبت الدراية‏.‏ وهذا الاحتمال عندي أظهر‏.‏ انتهى‏.‏

قلت‏:‏ أما الأول فبعيد مع أن الحمل على التأسيس خير من التأكيد‏.‏ وأما الثاني فكان يلزمه أن يقول‏:‏ وإن كنت لدارياً، باللام الفارقة‏.‏

وقوله‏:‏ رمين بنون النسوة، وهو واضح مع ما قدمنا‏.‏ وقال ابن الملا‏:‏ فإن قلت‏:‏ كان الظاهر رمت، فلم أتى بضمير الجمع‏؟‏ قلت‏:‏ للتعظيم الذي يليق بأهل الود السليم‏.‏ انتهى‏.‏

أقول‏:‏ تعظيم الغائب الواحد بضمير الجمع غير موجود في لغة العرب‏.‏

وقال الدماميني‏:‏ الضمير عائد إلى البنان، وإلى المرأة وصواحبها‏.‏

قال السيوطي‏:‏ هذا البيت أنشده الزبير بن بكار بلفظ‏:‏

فوالله ما أدري وإني لحاسبٌ *** بسبعٍ رميت الجمر وبثمان

بتاء المتكلم في رميت‏.‏ وهذا الوجه أوجه بلا شك، فإن إلخ بار بذهوله عن فعله لشغل قلبه بما رأى، أبلغ من إلخ بار بذهوله عن فعل الغير‏.‏ وفيه سلامة من التأويل المذكور‏.‏

قال ابن الملا‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ هذا الكلام في حيز المنع، إذ ليس في ذهول الإنسان عن فعل نفسه، وإن كان ذا خطر كبير أمر، لا سيما والشاغل ما ذكر، كيف وإن وقوعه أكثر من أن يحصى، بخلاف ذهول الإنسان عن فعل الغير المتصدي لمراقبته شهوداً وغيبة، فإن العادة تقتضي، والمذهب الغرامي يوجب، أن من تصدى لمراقبة فعل الأحباب، كان أبعد من أن يذهل عنه، فإذا ذهل عنه كان في حيز التعجب‏.‏

وأما دعواه السلامة من التأويل فظاهر المنع، لأن معنى البيت على روايته‏:‏ فوالله ما أدري الحساب وإني لحساب، لأن نفيه لدراية جواب أبسبعٍ رمين أم بثمان، إنما هو لانتفاء كونه دارياً إذا ذاك بالحساب، كما يشهد به التخيل الصحيح‏.‏ ويعود الإشكال فيحتاج إلى التأويل، اللهم إلا أن يكون أراد التأويل في رمين‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقال ابن المستوفي‏:‏ أراد أنه شغل بهن فلم يدر عدد ما رمينه من الجمرات‏.‏ وهذا معنىً مبتذل، إلا أنه عكس ما ذكره غيره‏.‏ وذلك أن الشعراء ذكروا أنهم شغلوا، وبهتوا بما جرى عليهم، فلم يعلموا ما فعلوا بأنفسهم، كقول جران العود‏:‏ البسيط

ثم ارتحلت برحلي قبل برذعتي *** والعقل متلهٌ والقلب مشغول

ويمكن أن يعتذر لعمر فيقال‏:‏ إنه شغل بهن عن نفسه، فلم ينظر إلا إليهن لا إلى ما يفعلن‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ فقلت لها عوجي، عاج بالمكان يعوج عوجاً من باب قال، أي‏:‏ أقام به‏.‏ وعجت غيري بالمكان أعوجه، يتعدى ولا يتعدى‏.‏ وعجت البعير، إذا عطفت رأسه بالزمام‏.‏ كذا في الصحاح‏.‏

وتقدمت ترجمة عمر بن أبي ربيعة في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع بعد التسعمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

لعمرك ما أدري وإن كنت داري *** شعيث ابن سهمٍ أم شعيث ابن منقر

لما تقدم قبله، وتقدم فيه نص سيبويه وإعرابه‏.‏

وأورده ابن هشام في بحث أم من المغني، وقال‏:‏ الأصل أشعيث، بالهمزة في أوله، والتنوين في آخره، فحذفهما للضرورة‏.‏ والمعنى‏:‏ ما أدري أي النسبين هو الصحيح‏.‏

أقول‏:‏ حكمه هنا بأن حذف الهمزة ضرورة ينافيه ما تقدم منه في بحث الألف من إطلاق جواز حذفها، تقدمت على أم أم لم تتقدم‏.‏ وإنما اعتبره منوناً حذف تنوينه للضرورة لأنه أخبر عنه بابن، والعلم المنون إنما يحذف تنوينه إذا وصف بابن لا إذا أخبر عنه، ومن ثم يكتب ألف ابن أيضاً، وإن كان واقعاً بين علمين‏.‏

قال ابن الملا‏:‏ ويجوز أن يكون ممنوعاً من الصرف ولا ضرورة، باعتبار القبيلة، والإخبار عنه بابن لا يمنع ذلك، لجواز رعاية التذكير والتأنيث باعتبارين‏.‏

قال السيرافي‏:‏ يهجو هذه القبيلة، يقول‏:‏ إنها لم تستقر على أب لأن بعضاً يعزوها إلى منقر، وبعضاً إلى سهم‏.‏ وسيأتي أنه اسم رجل لا قبيلة‏.‏

وقال الأعلم‏:‏ المعنى ما أدري‏:‏ أشعيث من بني سهم أم هم من بني منقر‏.‏ وشعيث‏:‏ حي من تميم، من بني منقر، فجعلهم أدعياء، وشك في كونهم منهم ومن بني سهم‏.‏ وسهم هنا‏:‏ حي من قيس‏.‏ انتهى‏.‏

وصحف ابن الملا سهماً بغنم، فقال‏:‏ قال الأعلم‏:‏ شعيث‏:‏ حيٌ من غنم‏.‏ انتهى‏.‏

وشعيث في الموضعين بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة وآخره ثاء مثلثة، قال العسكري في كتاب التصحيف، والأعلم‏:‏ وروايته بالباء الموحدة تصحيف‏.‏

ومنقر، بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف، بطن من تميم وهو منقر ابن عبيد، بالتصغير، ابن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم‏.‏ كذا في الجمهرة‏.‏ وقوله‏:‏ وسهم‏:‏ حيٌ من قيس، أي‏:‏ من قيس عيلان‏.‏ وهو سهم بن عمرو بن ثعلبة بن غنم بن قتيبة بن باهلة‏.‏ وينتهي نسبه إلى غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر‏.‏ وفي قريش أيضاً‏:‏ سهم أبو حي، وهو سهم بن عمرو بن هصيص - بالتصغير - ابن عمرو بن جمح - بضم الجيم ففتح الميم - ابن كعب بن لؤي‏.‏ ومنهم قيس بن عدي بن سعد بن سهم‏.‏

وزعم ابن الحنبلي فيما كتبه عن المغني أن قول الأعلم حيٌ من قيس هو قيس السهمي‏.‏ وهذا غلط منه لا يصح‏.‏

وشعيث المذكور لم أر له ذكراً في جمهرة الأنساب، ولا في الصحاح ولا في العباب‏.‏ وذكره صاحب القاموس، وقال شعيث كزبير‏:‏ ابن محرز‏.‏

والبيت أنشده سيبويه للأسود بن يعفر‏.‏ وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والستين من أول الكتاب‏.‏

وأنشده المبرد في موضعين من الكامل للّعين المنقري‏.‏ والله أعلم‏.‏

ونقل أبو الوليد الوقشي عن البيان للجاحظ فيما كتبه على كامل المبرد، أنه قال‏:‏ ذكروا أن شعيث بن سهم بن محرز بن حزن أغير على إبله، فأتى أوس ابن حجر يستنجده، فقال أوس‏:‏ وخيرٌ من ذلك‏!‏ أحضّض لك قيس بن عاصم‏؟‏ وكان يقال‏:‏ إن حزن بن الحارث هو حزن بن منقر، فقال أوس‏:‏ الطويل

سائل بها مولاك قيس بن عاصم *** فمولاك مولى السوء إن لم يعير

لعمرك ما أدري أمن حزن محرزٍ *** شعيث بن سهمٍ أم لحزن بن منقر

وكتب الوقشي على الموضع الثاني من الكامل بعد إنشاد البيت الثاني‏:‏ قال الجاحظ‏:‏ كان يقال‏:‏ إن حزن بن الحارث يكون أبا جد شعيث بن سهم بن محرز ابن حزن بن الحارث، أحد بلعنبر بن عمرو بن تميم، وهو حزن بن منقر‏.‏ ولشعيث ابن سهم وقول أوس هذا فيه خبر أثبته الجاحظ في البيان‏.‏ انتهى‏.‏

فظهر مما ذكرنا أن شعيثاً ليس بأبي قبيلة، وظهر قول ابن هشام إن تنويه حذف للضرورة‏.‏ ولا يتأتى دعوى منع صرف للعملية، والتأنيث باعتبار القبيلة، والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد إلخ امس بعد التسعمائة

وهو من شواهد س‏:‏ الكامل

كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ *** غلس الظلام من الرباب خيالا

لما تقدم من أن الهمزة المعادلة لأم محذوفة منه للضرورة، والتقدير‏:‏ أكذبتك عينك أم رأيت‏.‏

ونقل سيبويه عن إلخ ليل أن أم فيه منقطعة، وجوز أن تكون متصلة بتقدير الهمزة كما تقدم‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه إتيانه بأم منقطعة بعد إلخ بر، حملاً على قولهم‏:‏ إنها لإبل أم شاء‏.‏ ويجوز أن تحذف ألف الآستفهام ضرورة لدلالة أم عليها، والتقدير‏:‏ أكذبتك عينك أم رأيت‏؟‏ ونظير إضرابه على إلخ بر الأول، وتكذيبه لنفسه، بقوله‏:‏ أم رأيت بواسط قول زهير‏:‏ البسيط

قف بالديار التي لم يعفها القدم *** بلى وغيرها الأرواح والديم

فقال‏:‏ لم يعفها القدم ثم أكذب نفسه فقال‏:‏ بلى وغيرها الأرواح‏.‏ فكذلك قال‏:‏ كذبتك عينك فيما تخيل لك، ثم رجع عن ذلك فقال‏:‏ أم رأيت بواسط خيالاً‏.‏ والمعنى‏:‏ بل هل رأيته ولم تشك فيه‏.‏ انتهى‏.‏

وذكر الوجهين المبرد في الكامل، قال‏:‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أ كذبتك عينك، كما قيل في‏:‏

بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان

وليس هذا بالأجود، ولكنه ابتدأ متيقناً، ثم شك فأدخل أم كقولك‏:‏ إنها لإبل، ثم تشك، فتقول‏:‏ أم شاء يا قوم‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن الحنبلي‏:‏ إن جعل إلخ ليل التقدير في المثال‏:‏ بل أهي شاء، كان مراد إلخ طل‏:‏ كذبتك عينك في رؤية الربا نفسها، بل لم تر خيالاً منها فضلاً عن أن تراها نفسها، على أن أم بمعنى بل وهمزة الإنكار‏.‏ وإن جعله‏:‏ بل هي شاء، كان مراده‏:‏ كذبتك عينك فلم تكن رأيتها، بل رأيتها خيالاً منها‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ابن هشام في المغني عن أبي عبيدة، أنه زعم أن أم تأتي بمعنى الاستفهام المجرد من الإضارب، فقال في قول إلخ طل‏:‏

كذبتك عنك أم رأيت بواسطٍ

إن المعنى‏:‏ هل رأيت‏.‏

والبيت مطلع قصيدة للأخطل النصراني، هجا بها جريراً‏.‏

وبعده‏:‏

وتغولت لتروعنا جنيةٌ *** والغانيات يرينك الأهوالا

يمددن من هفواتها إلى الصب *** سبباً يصدن به الغواة طوالا

ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى *** فينا ولا كحبالهن حبالا

المهديات لمن هوين مسبةً *** والمحسنات لمن قلين مقالا

يرعين عهدك ما رأينك شاهد *** وإذا مذلت يصرن عنك مذالا

وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه *** ووجدت عند عداتهن مطالا

فإن دعونك عمهن فإنه *** نسبٌ يزيدك عندهن خبالا

وإذا وزنت حلومهن إلى الصب *** رجح الصبا بحلومهن فمالا

ومنه‏:‏

فانعق بضأنك يا جرير فإنم *** منتك نفسك في إلخ لاء ضلالا

منتك نفسك أن تسامي دارم *** وأن توازن حاجباً وعقالا

دارم‏:‏ قبيلة الفرزدق‏.‏ وحاجب وعقال‏:‏ من أشراف قومه‏.‏

وروي عن جرير أنه قال‏:‏ ما غلبني إلخ طل إلا في هذه القصيدة، ولقد قلت بيتاً في القصيدة التي عارضت قصيدته بها، لو أن أحدهم نهشته أفعى في استه ما حكها، وهو‏:‏ الكامل

والتغلبي إذا تنحنح للقرى *** حك استه وتمثل الأمثالا

كذا في نوادر ابن الأعرابي‏.‏

وقوله‏:‏ فانعق بضأنك، استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق‏}‏ على أن النعيق‏:‏ التصويت، يقال‏:‏ نعق المؤذن والراعي بغنمه ينعق بالكسر نعيقاً ونعاقاً‏:‏ صاح بها وزجرها‏.‏

والمعنى‏:‏ إنك من رعاة الغنم لا من الأشراف، وما منتك نفسك به في إلخ لاء أنك من العظماء، فضلال باطل، لأنك لا تقدر على إظهاره في الملأ، وهم الأشراف‏.‏

وقوله‏:‏ كذبتك نفسك أم رأيت بواسط هذا خطاب لنفسه على طريق التجريد‏.‏ قال ابن الأثير في النهاية‏:‏ قد استعملت العرب الكذب في موضع إلخ طأ‏.‏

قال إلخ طل‏:‏ كذبتك نفسك ومنه حديث عروة، قيل له‏:‏ إن ابن عباس يقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بضع عشرة سنة، فقال‏:‏ كذب، أي‏:‏ أخطأ‏.‏ ومنه قول عمر لسمرة حين قال‏:‏ المغمى عليه يصلي مع كل صلاةٍ صلاةً حتى يقضيها، فقال‏:‏ كذبت، ولكنه يصليهن معاً‏.‏ أي‏:‏ أخطأت‏.‏ وقد تكرر في الحديث‏.‏ انتهى‏.‏

والغلس، بفتحتين‏:‏ ظلمة آخر الليل، والرباب، بفتح الراء من أسماء النساء‏.‏ والخيال‏:‏ الطيف‏.‏ وواسط هنا‏:‏ موضع بجزيرة ابن عمر في الموصل، وهو من مواضع بني تغلب التي ينزلون بها‏.‏

وقال ابن السيرافي‏:‏ واسط هنا‏:‏ موضع بنواحي الشام‏.‏ وغلطه الأسود أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب، فقال‏:‏ ليس بنواحي الشام موضع يقال له‏:‏ واسط، والذي في البيت واسط الجزيرة‏.‏ وأخبرني أبو الندى، قال‏:‏ للعرب سبعة أواسط‏:‏ واسط نجد، وهو الذي ذكره خداش بن زهير‏:‏ الطويل

عفا واسطٌ أكلاؤه فمحاضره *** إلى حيث نهيا سيله فصدائره

وواسط الحجاز، وهو الذي ذكره كثير‏:‏ الطويل

أجدوا فأما آل عزة غدوةً *** فبانوا وأما واسطٌ فمقيم

وواسط الجزيرة، وهو الذي ذكره إلخ طل في ذاك البيت، وفي بيته إلخ ر‏:‏ الطويل

عفا واسطٌ من آل رضوى فنبتلٌ *** فمجتمع الحرين فالصبر أجمل

وواسط اليمامة وهو الذي ذكره الأعشى في شعر، وواسط العراق‏.‏ وقد أنسيت اثنين‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وقد أبعد السيوطي في قوله‏:‏ واسط‏:‏ بلد بالعراق اختطها الحجاج، وتبعه ابن الملا‏.‏

وقال ياقوت في معجم البلدان، قال أبو حاتم‏:‏ واسط التي ينجدٍ والتي بالجزيرة يصرف ولا يصرف‏.‏وأما واسط البلد المعروف فمذكر، لأنهم أرادوا بلداً واسطاً، ومكاناً واسطاً، فهو منصرف على كل حال‏.‏ والدليل على ذلك قولهم‏:‏ واسط بالتذكير، ولو ذهب به إلى التأنيث لقالوا‏:‏ واسطة‏.‏

قالوا‏:‏ وقد يذهب به مذهب البقعة، والمدينة فيترك صرفه‏.‏ وأنشد سيبويه في ترك الصرف‏:‏ البسيط

منهن أيام صدقٍ قد عرفت به *** أيام واسط والأيام من هجرا

ولقائل أن يقول‏:‏ إنه لم يرد واسط هذه‏.‏ فيرجع إلى ما قاله أبو حاتم‏:‏ وسميت مدينة الحجاج واسطاً لأنها متوسطة بين البصرة والكوفة، لأن منها إلى كل واحدة منها خمسين فرسخاً، لا قول فيه غير ذلك إلا ما ذهب إليه بعض أهل اللغة حكاية عن ابن الكلبي، أنه كان قبل عمارة واسط هنا موضع يسمى‏:‏ واسط قصب، فلما عمر الحجاج مدينته سماها باسمها‏.‏ والله أعلم‏.‏

وشرع الحجاج في عمارة واسط سنة أربع وثمانين، وفرغ منها في سنة ست وثمانين، فكان عمارتها في عامين، في العام الذي مات فيه عبد الملك بن مروان، ولما فرغ منها كتب إلى عبد الملك‏:‏ إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض، بين الجبل والمصرين، وسميتها واسطاً‏.‏ فلذلك سمي أهل واسط الكرشيين‏.‏

وفي الأمثال‏:‏ تغافل واسطي، قال المبرد‏:‏ سألت عنه التوزي، فقال‏:‏ إن الحجاج لما بناها، قال‏:‏ بنيت المدينة في كرشٍ من الأرض‏.‏

فسمي أهلها الكرشيين، فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا‏:‏ يا كرشي فتغافل عن ذلك ويري أنه يسمع، وأن إلخ طاب ليس معه، ولقد جاءني بخوارزم أحد أعيان أدبائها، وسألني عن هذا المثل، وقال لي‏:‏ قد أطلت السؤال عنه، فلم أظفر به، ولم يكن لي في ذلك الوقت علم به، حتى وجدته بعد ذلك فأثبته‏.‏

وأنشد التنوخي لفضل الرقاشي‏:‏ الوافر

تركت عيادتي ونسيت بري *** وقدماً كنب بي براً حفياً

فما هذا التغافل يا ابن عيسى *** أظنك صرت بعدي واسطياً

انتهى‏.‏

وقال ابن الملا‏:‏ المثل‏:‏ تغافل كأنك واسطي، لأنه كان يتسخرهم في البناء فيهربون، وينامون بين الغرباء في المسجد، فيجيء الشرطي، يقول‏:‏ يا واسطي‏.‏ فمن رفع رأسه أخذه، فلذلك كانوا بتغافلون‏.‏ هذا كلامه‏.‏ وهو بعيد‏.‏

ثم قال ياقوت‏:‏ واسط أيضاً قرية متوسطة بين بطن مر، ووادي نخلة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية مشهورة ببلخ‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم، وبالقرب منها قرية يقال لها‏:‏ الكوفة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية بالخابور قرب قرقيساء، وإياها عني إلخ طل فيما أحسب، لأن الجزيرة منازل تغلب‏:‏

عفا واسطٌ من ارض رضوى فنتبل

وواسط أيضاً‏:‏ قرية بدجيل، على ثلاثة فراسخ من بغداد‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ موضع بين العذيب والصفراء‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ من منازل بني قشير لبني أسيدة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ بمكة، قال الفاكهي‏:‏ واسط‏:‏ قرن كان أسفل من جمرة العقبة بين المأزمين، فضرب حتى ذهب، قال‏:‏ ويقال له‏:‏ واسط لأنه بين الجبلين اللذين دون العقبة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ بليدة بالأندلس من أعمال قبرة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية كانت قبل واسط في موضعها، كانت تسمى واسط القصب، أخربها الحجاج وبني مدينته واسطاً‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية قرب مطيراباذ قرب حلة بني مزيد، يقال لها‏:‏ واسط مرزاباد‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ قرية باليمن بسواحل زبيد، قرب العنبرة‏.‏

وواسط أيضاً‏:‏ مواضع في بلاد بني تميم‏.‏

وقوله‏:‏ وتغولت، أي‏:‏ تهولت‏.‏ والغانية‏:‏ الحسناء التي استغنت بحسنها عن الزينة‏.‏ والهفوة‏:‏ الجهل‏.‏ والسبب‏:‏ الحبل‏.‏ والطوال، بالضم‏:‏ الطويل‏.‏

ومذلت من كلامه‏:‏ قلقت وضجرت‏.‏ والمذيل‏:‏ المريض الذي لا يتقار وهو ضعيف‏.‏ ومذل بسره، أي‏:‏ أفشاه‏.‏ ومذال‏:‏ جمع مذلي، كعطاش جمع عطشي‏.‏

وترجمة إلخ طل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين من أوائل الكتاب‏.‏

ومن هذه القصيدة قوله‏:‏ الكامل

أبني كليبٍ إن عمي اللذ *** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والعشرين بعد الأربعمائة من باب اسم الفاعل‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس بعد التسعمائة

البسيط

أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به *** رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن

على أن أم فيه بمعنى بل وحدها، بدون همزة الاستفهام، إذ الاستفهام موجود، فلا وجه لجمع استفهامين إلا على وجه التأكيد، ولا يضطر إليه مع إمكان التأسيس‏.‏

وفيما ذهب إليه مخالفة للبصريين، وميل لقول الكوفيين لقوته‏.‏

وإليه ذهب ابن هاشم أيضاً في المغني، قال‏:‏ نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أنها أبداً بمعنى بل، والهمزة جميعا، وأن الكوفيين خالفوهم في ذلك‏.‏ والذي يظهر قولهم، إذ المعنى في‏:‏ أم جعلوا لله شركاء ليس على الاستفهام، ولأنه يلزم البصريين دعوى التأكيد في نحو‏:‏ أم هل تستوي الظلمات ، ونحو‏:‏ أم ماذا كنتم تعملون ، أم من هذا الذي هو جندٌ لكم ‏.‏ انتهى‏.‏

وسبقهما إلى هذا أبو علي، قال في المسائل المنثورة بعد إنشاد هذا البيت‏:‏ هذه المسألة فيها إشكال، وهو أن أم للاستفهام، دخلت على كيف‏.‏ فوجه ذلك أن أم هنا عاطفة، وكيف للاستفهام‏.‏ كما أنك إذا قلت‏:‏ ما جاءني زيد ولكن عمرو، فالواو فيه عاطفة، وخرجت لكن من معنى العطف لدخول الواو‏.‏

فكذلك إذا قيل‏:‏ أم هل، تخرج هل من معنى الاستفهام لدخول أم، فكذلك تخرج أم من معنى الاستفهام إلى العطف‏.‏ انتهى‏.‏

وتبعه ابن جني في إلخ صائص، فقال‏:‏ فإن قلت‏:‏ فما تقول في قوله‏:‏ أم كيف ينفع البيت، وجمعه بين أم وكيف‏؟‏ فالقول‏:‏ إنهما ليسا لمعنى واحد‏.‏ وذلك أن أم هنا جردت لمعنى الترك والتحول، وجردت من معنى الاستفهام، وأفيد ذلك من كيف، لا منها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهلا وكدت إحداهما بالأخرى توكيداً، كتوكيد اللام لمعنى الإضافة، وياءي النسب لمعنى الصفة‏؟‏ قيل‏:‏ يمنع من ذلك أن كيف لما بنيت، واقتصر بها على الاستفهام البتة، جرت مجرى الحرف البتة‏.‏

وليس في الكلام اجتماع حرفين لمعنى واحد، لأن في ذلك نقضاً لما اعتزم عليه من إلخ تصار في استعمال الحروف‏.‏ وليس كذلك‏:‏ يا بؤس للحرب، وأحمري‏.‏ وذلك أن هنا إنما انضم الحرف إلى اسم، فهما مختلفان،فجاز أن يترادفا في موضعهما لاختلاف جنسيهما‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال‏:‏ الوافر

وما إن طبنا جبنٌ

فجمع بين ما وإن، وكلاهما بمعنى النفي، وهما كما ترى حرفان‏.‏ قيل ليست إن حرف نفي، وإنما هي حرف يؤكد به، بمنزلة ما، ولا، والباء، ومن، وغير ذلك‏.‏

وأما قوله‏:‏ الوافر

طعامهم لئن أكلوا معدٌ *** وما إن لا تحاك لهم ثياب

فإن ما وحدها للنفي، وإن ولا جميعاً للتوكيد‏.‏ ولا ينكر اجتماع حرفين للتوكيد لجملة الكلام‏.‏ كلامه باختصار‏.‏

فعلم مما نقلناه إن ما ادعاه ابن الشجري من إجماع البصريين ليس بصحيح‏.‏ ودعوى ابن جني عدم اجتماع حرفين لمعنى واحد يبطلها قول الشاعر‏:‏ الوافر

ولا للما بهم أبداً دواء

وقوله‏:‏ الطويل

فأصبحن لايسألنه عن بما به

وقد تقدم شرحهما في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة وفي غيره‏.‏

والبيت آخر أبيات تسعة لأفنون التغلبي، أوردها له أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب، والمفضل في المفضليات، وهي‏:‏

أبلغ حبيباً وخلل في سراتهم *** أن الفؤاد انطوى منهم على حزن

قد كنت أسبق من جاروا على مهلٍ *** من ولد آدم ما لم يخلعوا رسني

فالوا علي ولم أملك فيالتهم *** حتى انتحيت على الأرساغ والثنن

لو أنني كنت من عادٍ ومن إرم *** ربيت فيهم ولقمان ومن جدن

لما فدوا بأخيهم من مهولةٍ *** أخا السكون ولا جازوا على السنن

سألت قومي وقد سدت أباعرهم *** ما بين رحبة ذات العيص والعدن

إذ قربوا لابن سوارٍ أباعرهم *** لله در عطاء كان ذا غبن

أني جزوا عامراً سوءى بفعلهم *** أم كيف يجزونني السوءى من الحسن

أم كيف ينفع ما تعطي ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

قوله‏:‏ أبلغ حبيباً، بضم المهملة وفتح الموحدة الأولى، وهو قبيلة أفنون‏.‏

وقوله‏:‏ وخلل إلخ ، قال ابن الأنباري في شرحه‏:‏ سراتهم‏:‏ خيارهم، جمع سري‏.‏

وخلل، أي‏:‏ خصهم بالبلاغ، أي‏:‏ اجعل بلاغك يتخللهم‏.‏وقوله‏:‏ أن الفؤاد إلخ ، هذا هو المبلغ‏.‏

يريد‏:‏ أنه قد تألم منهم لما طلب منهم أباعر فخيبوا أمله منهم، ولم يتحملوا عنه ديات من قتلهم‏.‏

وقوله‏:‏ قد كنت أسبق إلخ ، على‏:‏ متعلقة بأسبق، ومن بيان لمن، وما‏:‏ مصدرية ظرفية‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أي كنت أناضل عنهم، وأدفع، وأسبق من جارهم‏.‏

وقوله‏:‏ من ولد آدم، أي‏:‏ من الناس كلهم‏.‏ وقوله‏:‏ ما لم يخلعو إلخ ، أي‏:‏ كنت أسبق من فاخرهم، وطلب مغالبتهم ما لم يهملوني، ويتخلوا عني‏.‏ وجعل خلع الرسن مثلاً، كأنهم تبرؤوا منه لكثرة جزائره‏.‏

وقوله‏:‏ فالوا علي إلخ ، بالفاء، من الفيلولة، وهي ضعف الرأي‏.‏ والفيالة بالفتح الاسم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أي‏:‏ اخطؤوا على رأيهم، يقال‏:‏ فال الرجل في رأيه، وهو فيل الرأي بالكسر‏.‏

وقوله‏:‏ انتحيت‏:‏ اعتمدت‏.‏ والأرساغ‏:‏ جمع رسغ، وهو من الدواب الموضع المستدق بين الحافر، وموصل الوظيف من اليد والرجل‏.‏ والثنن‏:‏ جمع ثنة، بضم المثلثة وتشديد النون، وهو الشعر في مؤخر الرسغ‏.‏ وحتى بمعنى إلى متعلقه بفالوا‏.‏ وضربهما مثلاً لأسافل الناس‏.‏ يريد‏:‏ أما لما أخطؤوا في أمري، وأصروا قصدت أرذال الناس‏.‏

وقوله‏:‏ لو أنني كنت إلخ ، من عاد‏:‏ خبر كنت، وريبت‏:‏ حال من الضمير المستقر في إلخ بر، قال صاحب الصحاح‏:‏ وربوت في بني فلان، وربيت، أي‏:‏ نشأت فيهم‏.‏

وإرم - بكسر ففتح -‏:‏ قبيلة مشهورة بالقوة‏.‏ وعظم الأبدان‏.‏ وعاد‏:‏ اسم أبيهم ولقمان، أي‏:‏ ومن نسل لقمان صاحب النسور، وهو منسوب إلى عاد، كما قال الشاعر‏:‏ الوافر

تراه يطوف الآفاق حرص *** ليأكمل رأس لقمان بن عاد

وجدن، بفتح الجيم، قال ابن الأنباري‏:‏ قبيلة باليمن‏.‏ انتهى‏.‏

وقيل‏:‏ هو قيل من أقيال اليمن، والمشهور فيه ذو جدن، فيكون التقدير أيضاً‏:‏ ومن نسل ذي جدن‏.‏

وقوله‏:‏ لما فدوا اللام في جواب لو، ودخولها على حرف النفي نادر‏.‏ والسكون، بفتح السين‏:‏ قبيلة من كندة في اليمن‏.‏ وأخا السكون‏:‏ مفعول فدوا، هو رجل من السكون، كان أسيراً عند قوم أفنون‏.‏

وأراد بأخيهم نفسه والباء للبدل‏.‏ ومن مهولة‏:‏ من أجل مصيبة هائلة‏.‏ ولا جازوا من المجازاة‏.‏ والسنن‏:‏ جمع سنة، وهي السيرة‏.‏ بالغ في ذكر تبرئهم منه، وجفائهم له‏.‏

وقوله‏:‏ سألت قومي السؤال هنا الاستعصاء‏.‏ وجملة‏:‏ قد سدت إلخ ، حالية‏.‏ والرحبة‏:‏ الفضاء‏.‏

وقوله‏:‏ إذا قربوا‏:‏ متعلق بسألت‏.‏‏.‏ وقوله‏:‏ لله در إلخ ، تهكم في صورة المدح‏.‏ والغبن، بفتحتين‏:‏ ضعيف الرأي، يتهكم بهم في رأيهم الضعيف حيث منعوه الإعطاء مع السؤال، وهو منهم، وأعطوا الأجنبي ولم يسألهم‏.‏

وقوله‏:‏ أنى جزوا عامر إلخ ، استفهام تعجبي، وأنى‏:‏ بمعنى كيف، والواو في جزوا ضمير عشيرته، وعامر هو عامر بن صعصعة، هو أبو قبيلة، والمراد هنا‏:‏ القبيلة، وصرفه باعتبار الحي، ولو منعه الصرف لكان باعتبار القبيلة‏.‏ والباء للمقابلة، والهاء والميم ضمير عامر‏.‏

والسوءى‏:‏ فعلى، نقيض الحسنى، وهما مؤنث الأسوأ والأحسن‏.‏ ولأجل القافية قابل السوءى بالحسن، ولولاها لكان يقول الحسنى‏.‏

وروي في الأول السوء وهو اسم من ساءه يسوءه سوءاً ومساءة نقيض سره‏.‏ يقول أتعجب لقومي كيف عاملوا بني عامر بالسوء في مقابلة فعلهم الجميل‏!‏ وقوله‏:‏ أم كيف يجزونني، أم‏:‏ للإضارب عن الأول‏.‏ ومن الحسن، قال ابن الشجري‏:‏ متعلق بحال محذوفة، والتقدير‏:‏ كيف يجزونني السوءى بدلاً من الحسن‏.‏ مثله في التنزيل‏:‏ أرضيتم بالحياة الدنيا من إلخ رة، أي‏:‏ بدلاً من إلخ رة‏.‏

يقول‏:‏ بل أتعجب من قومي كيف يعاملونني بالسوء حال كونه بدلاً من الفعل الحسن، والصنع الجميل‏.‏ وأضرب عن الأول للإشارة إلى أن إساءتهم لبني عامر سهل بالنسبة إلى إساءتهم به، بادعاء أنه ربما كان لهم عذر في الإساءة لأولئك، وأما في الإساءة إليه فلا عذر لهم أصلاً‏.‏

ولما تخيل أنهم ربما غالطوا فاعتذروا، ترقى بقوله‏:‏ أم كيف ينفع‏.‏‏.‏ البيت، كأنه يقول‏:‏ هو ظاهر لا يساعده باطن، وقالٌ لا يصدقه حال‏.‏

وقوله‏:‏ أم كيف ينفع إلخ ، أم هذه أيضاً للإضراب‏.‏ والعلوق، بفتح العين المهملة، قال ابن الأنباري في شرحه‏:‏ العلوق من الإبل‏:‏ التي لا ترأم ولدها، ولا تدر عليه‏؟‏ جعله ها هنا مثلاً‏.‏ ورئمانها هنا‏:‏ عطفها ومحبتها‏.‏

وقال القالي في أماليه‏:‏ هي الناقة التي ترأم بأنفها، وتمنع درها‏.‏ يقول‏:‏ فأنتم تحسنون القول، ولا تعطون شيئاً، فكيف ينفعني ذلك‏.‏ انتهى‏.‏

وقال الزجاجي في أماليه الصغرى‏:‏ هذا البيت مثل يضرب لكل من يعد بلسانه كل جميل، ولا يفعل منه؛ لأن قلبه منطوٍ على ضده‏.‏

كأنه قيل‏:‏ كيف ينفعني قولك الجميل إذا كنت لا تفي به‏.‏ وأصله أن العلوق هي الناقة التي تفقد ولدها بنحر وموت، فيسلخ جلده، ويحشى تبن وحشيشاً، ويقدم إليها لترأمه، أي‏:‏ تعطف عليه، ويدر لبنها فينتفع به‏.‏

فهي تشمه بأنفها، وينكره قلبها فتعطف عليه ولا ترسل اللبن‏.‏ فشبه ذاك بهذا‏.‏ انتهى‏.‏

وقال المبرد في الكامل‏:‏ الناقة إذا ألقت سقبه ونحر، فخيف انقطاع لبنها، أخذوا جلد حوارٍ فحشوه تبناً، ولطخوه بشيء من سلاها، ثم حشوا أنفها بخرقة فتجد لذلك كرباً‏.‏

ويقال للخرقة التي تجعل في أنفها غمامة، ثم تسل تلك إلخ رقة من أنفها فتجد روحاً، وترى ذلك البو تحتها، وهو جلد الحوار المحشو فترأمه، فإن درت عليه قيل‏:‏ ناقة درور‏.‏ وترأمه‏:‏ تشمه‏.‏

ويقال في هذا المعنى‏:‏ ناقة ظؤور، فينتفع بلبنها‏.‏ ويقال‏:‏ ناقة رائم ورؤوم، إذا كانت ترأم ولده وبوها‏.‏ فإن رئمته ولم تدر عليه، فتلك العلوق، ولا خير عندها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال أبو الحسن إلخ فش‏:‏ يقال للناقة إذا مات ولده وذبح‏:‏ سلوب، فإن عطفت على غير ولدها فرئمته فهي رائم، وإن لم ترأمه، ولم تدر عليه، فهي علوق‏.‏ ويقال العلوق‏:‏ التي قد علقت فذهب لبنها، وعلقت بمعنى حبلت‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ العلوق من النوق‏:‏ التي تأبى أن ترأم ولده وبوها‏.‏ والبو‏:‏ جلد الحوار يحشى ثمام وحشيشاً، ويقدم إليها لترأمه فتدر عليه فتحلب‏.‏ فهي ترأمه بأنفها، وينكره قلبها، فرأمها‏:‏ أن تشمه فقط ولا ترسل لبنها‏.‏

وهذا يضرب مثلاً لمن يعد بكل جميل، ولا يفعل منه شيئاً‏.‏

والرئمان، بكسر الراء والهمزة‏:‏ مصدر رئمت الناقة ولدها، من باب فرح، إذا أحبته وعطفت عليه، وفي الأمثال‏:‏ لا أحب رئمان أنف وأمنع الضرع ، يضرب لمن يظهر الشفقة ويمنع خيره، كذا في أمثال الزمخشري‏.‏

وقوله‏:‏ إذا ما ضن بضم الضاد المعجمة، أي‏:‏ حصل الضن، وهو الشح والبخل‏.‏

قال ابن جني في المحتسب‏:‏ ألحق الباء في به لما كان تعطي في معنى تسمح به‏.‏ ألا تراه قال في آخر البيت‏:‏ إذا ما ضن باللبن، فالضن‏:‏ نقيض السماحة والبذل‏.‏انتهى‏.‏

والهاء في به راجعة إلى ما، ولولا التضمين لقيل‏:‏ تعطية، وما وإن كانت في اللفظ فاعل ينفع؛ فهي في المعنى مفعول، وهي الشيء المعطى، وهي اسم موصول بمعنى الذي، واقع على الرئمان كما يأتي بيانه، وزعم ابن الشجري أنه واقع على البو، وهو غير جيد كما سيتضح‏.‏

وقد أجاز الكسائي في رئمان أنف الرفع والنصب والجر، قال الزجاجي في أماليه‏:‏ أخبرنا أحمد بن الحسين المعروف بابن شقير النحوي، وعلي بن سليمان، قالا‏:‏ أخبرنا أحمد بن يحيى بن ثعلب، قال‏:‏ اجتمع الكسائي والأصمعي بحضرة الرشيد، كانا ملازمين له، يقيمان بإقامته ويظعنان بظعنه‏.‏

فأنشد الكسائي‏:‏

أني جزواً عامراً سوءاً بفعلهم البيتين

فقال الأصمعي‏:‏ إنما هو رئمان أنف بالنصب‏.‏ فقال له الكسائي‏:‏ اسكت ما أنت وهذا، يجوز بالرفع، والنصب، والخفض‏.‏ أما الرفع فعلى الرد على ما، لأنها في موضع رفع بينفع، فيصير التقدير‏:‏ أم كيف ينفع رئمان أنف‏.‏ والنصب بتعطي، والخفض على الرد على الهاء التي في به‏.‏

قال‏:‏ فسكت الأصمعي ولم يكن له علم بالعربية، كان صاحب لغة ولم يكن صاحب إعراب، انتهى ما أورده الزجاجي‏.‏

وقوله‏:‏ أما الرفع فعلى الرد على ما، يريد به الإبدال، وهي عبارة الكوفيين، وهو بدل كل من كل، ويجوز رفعه أيضاً على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ هو رئمان‏.‏

وقد جوز هذين الوجهين أبو علي الفارسي في البغداديات، قال فيها‏:‏ حكي لنا أن أبا العباس محمداً، وأبا العباس أحمد، كانا يلقيان هذا البيت، ويسألان عن وجه الإعراب فيه‏.‏ ورئمان بالرفع والنصب والجر‏.‏

والمعنى‏:‏ ما ينفع عطفها عليه إذا لم يدر لبنها‏.‏ وأقول‏:‏ إن الرفع في رئمان يجوز فيه من وجهين‏:‏ فأحدهما‏:‏ أن تبدل رئمان من الموصول فتجعله إياه في المعنى‏.‏ ألا ترى أن رئمان أنف هو ما تعطيه العلوق‏.‏

والآخر‏:‏ أن تجعله خبر مبتدأ محذوف، كأنه لما قال‏:‏ أم كيف ينفع ما تعطي العلوق‏؟‏ قيل له‏:‏ وما تعطي العلوق‏؟‏ فقال‏:‏ رئمان أنف، أي‏:‏ هو‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بشرٍ من ذلكم النار‏}‏، أي‏:‏ هي‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن الشجري في أماليه‏:‏ ما بمعنى الذي واقعة على البو، وانتصاب الرئمان هو الوجه الذي يصح به المعنى والإعراب، وإنكار الأصمعي لرفعه إنكار في موضعه، لأن رئمان العلوق للبو بأنفها، هو عطيتها، ليس لها عطية غيره‏.‏

فإذا أنت رفعته لم يبق عليها عطية في البيت لفظاً ولا تقديراً‏.‏ ورفعه على البدل من ما، لأنها فاعل ينفع، وهو بدل الاشتمال، ويحتاج إلى تقدير ضمير يعود منه على المبدل منه، كأنك قلت‏:‏ رئمان أنفها إياه‏.‏

وتقدير مثل هذا الضمير قد ورد في كلام العرب، ولكن في رفعه ما ذكرت لك من إخلاء تعطي من مفعول في اللفظ والتقدير‏.‏ وجر رئمان على البدل أقرب إلى الصحيح قليلاً‏.‏

وإعطاء الكلام حقه من المعنى والإعراب إنما هو بنصب الرئمان‏.‏ ولنحاة الكوفيين في أكثر كلامهم تهاويل فارغة من حقيقة‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وقد نقله ابن هشام في المغني وأقره، ومنشؤه حمل ما على البو، ولو حمله على الرئمان لم يرد شيء من هذا‏.‏

ولقد أجاد الدماميني في الاعتراض على ابن الشجري بقوله‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ لم لا يجوز أن يكون الضمير من به عائداً على ما، لا على البو، وبه يتعلق بتعطي على أنه مضمن معنى تجود، فلا يكون مخلى من مفعول مع رفع رئمان‏.‏ انتهى‏.‏

ويكون نصب رئمان على أحد ثلاثة أوجه غير ما ذكره‏.‏

قال أبو علي بعد ذاك‏.‏ وأما نصب رئمان فعلى ثلاث جهات‏:‏ أحدها‏:‏ على معنى أم كيف ينفع ما تعطيه من رئمان، فحذف الحرف، وأوصل الفعل‏.‏

ثانيها‏:‏ أن يكون من باب صنع الله، ووعد الله؛ كأنه لما قيل تعطي العلوق دل على ترأم، لأن إعطاءها رئمان، فنصبه على هذا الحد، لما دل عليه تعطي‏.‏

ثالثها‏:‏ أن ينتصب على الحال، مثل جاء ركضاً، على قياس إجازة أبي العباس في هذا الباب، ويجعل تعطي بمنزلة تعطف، كأنه قيل‏:‏ أم كيف ينفع ما تعطف به العلوق رئماناً، أي‏:‏ كيف ينفع تعطفها رائمة مع منعها لبنها‏.‏ فهذه ثلاثة أجوبة في النصب‏.‏ انتهى‏.‏

وأشار في الوجه الثالث إلى أن ما مصدرية، وعليه يكون ضمير به عائداً إلى البو المفهوم من المقام‏.‏

وقد اعترض الدماميني على مستند ابن الشجري في إنكار الرفع بأنه قد يلتزم، ولا محذور فيه، لأنّ الفعل المتعدي قد يكون الغرض من ذكره إثباته لفاعله، ونفيه عنه فقط، فينزّل منزلة اللام، ولا يقدّر له مفعول، تقول‏:‏ فلان يعطي، أي‏:‏ يفعل الإعطاء، فلا تذكر للفعل مفعولاً ولا تقدّره، لأنّ ذلك يخلّ بالغرض‏.‏ واعتبار هذا المعنى في البيت ممكن‏.‏

واعترض عليه ابن الحنبلي بأنّ اعتبار هذا المعنى ممكن في نفسه، وأمّا في البيت فلا، لأنه مخلٌّ بالغرض، إذ الغرض إثبات عطيّة لها، لا وصفها بالإعطاء فقط‏.‏ على أنّا نقول‏:‏ المتعدّي وإن نزّل منزلة اللازم لا يتحقق مضمونه إلاّ بمفعول في نفس الأمر، فإذا لم يكن لها عطيّة إلاّ الرئمان، وقد صار معطًى به لإبداله من م وضميرها؛ لم يتحقق الإعطاء فضلاً عن أن ينزّل فعله منزلة اللازم‏.‏ إلاّ أن يقال‏:‏ هو ممكن إذا فرض مفعول تعطي اللبن، لتحقّق سبب إعطائها إيّاه‏.‏

وإن لم تعتبر هي ذلك السبب حتى ضنّت به، كمن توفّرت لديه دواعي الكرم فلم يلتفت إليها، وبقي على بخله‏.‏ فلما ضنّت به ظهر أنّ عطيّتها لم تكن في الحقيقة إلاّ الرئمان‏.‏ انتهى‏.‏

وقد منع هو إلخ لاء المذكور بتقدير مفعول لتعطي، وهو رئمان آخر‏.‏ والتقدير‏:‏ أم كيف ينفع بوٌّ تعطي العلوق بسببه الرئمان رئمانه‏.‏

ولا يخفى أنّ هذا تكلّف‏.‏ ودعوى تضمين تعطي بتجود، كما صنع ابن جني، صحيح المحمل قليل المؤونة‏.‏

وقول ابن الشجري‏:‏ وهو بدل الاشتمال، ويحتاج إلى تقدير ضمير‏.‏ أقول‏:‏ إذا جرّ على البدلية من الهاء، يكون أيضاً محتاجاً إلى الضمير‏.‏

وقول الدماميني‏:‏ لا يتعيّن بدل الاشتمال، بل هو بدل كلّ، فلا يحتاج إلى ضمير، لا يصحّ؛ لأنّ ما عند ابن الشجري عبارة عن البو، وإنما يصح على جعل ما واقعة على الرئمان‏.‏

ووجه كون الجر أقرب إلى الصواب عن ابن الشجري‏:‏ أنه يصير معمولاً لتعطي بالبدلية، وقيل‏:‏ لكونه غير محتاج إلى الضمير الرابط‏.‏ وفيه أنه لا بدّ منه كما ذكرنا، فلا يصحّ هذا التوجيه‏.‏ وأفنون‏:‏ شاعر جاهلي، يروى بضم الهمزة وفتحها وسكون الفاء ونونين‏.‏

قال أبو عمرو الشيباني‏:‏ أفنون‏:‏ لقب له، لقوله من قطعة‏:‏ البسيط

منّيتنا الودّ يا مضنون مضنون *** أيّامنا إنّ للشّبّان أفنونا

واسمه كما قال أبو عمرو في أشعار تغلب، وابن الأنباري في شرح المفضليات، وابن قتيبة في كتاب الشعراء‏:‏ صريم بن معشر بن ذهل بن تيم بن مالك بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، وقالوا‏:‏ كان من خبره أنه لقي كاهناً فسأله عن موته؛ فقال‏:‏ تموت بمكان يقال له‏:‏ إلاه بكسر الهمزة‏.‏ فمكث ما شاء الله ثم سار إلى الشام في تجارة، ثم رجع في ركب من بني تغلب، فضلّوا الطريق، فلقوا إنساناً فاستخبروه، فنعت لهم، فقال في نعته‏:‏ إذا رأيتم إلاهة حيّ لكم الطريق - وإلاهة‏:‏ قارة بالسّماوة - فلما أتوها نزل أصحابه، وقالوا له‏:‏ انزل‏.‏ فقال أفنون‏:‏ والله لا أنزل‏؟‏‏!‏ فجعلت ناقته ترتعي عرفجاً، فلدغتها أفعى في مشفرها، فاحتكّت بساقه والحيّة متعلقة بمشفرها، فلدغته في ساقه، فقال لأخ معه‏:‏ احفر لي قبراً فإنّي ميّت‏!‏ ثم رفع صوته بأبيات منها‏:‏ الطويل

لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتّقي *** إذا هو لم يجعل له الله واقيا

كفى حزناً أن يرحل الحيّ غدوةً *** وأصبح في أعلى الإلهة ثاويا

وأنشد بعده‏:‏ الرمل

لو بغير الماء حلقي شرقٌ *** كنت كالغصّان بالماء اعتصاري

على أنّ الجملة الاسمية وهي‏:‏ حلقي شرق بغير الماء واقعة موضع الجملة الفعلية، وهي شرق حلقي، لأن لو مختصة بالفعل‏.‏

وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد التاسع والخمسين بعد الستمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏